خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 30 من ذي الحجة 1443هـ - الموافق 29 / 7 / 2022م
الدُّرُوسُ الْمَرْضِيَّةُ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ نَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَكَفَى بِاللهِ نَاصِرًا وَمُبْدِئًا وَمُعِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ - أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَبِالتَّقْوَى يُدْرَكُ الْمَطْلُوبُ، وَيُدْفَعُ الْمَرْهُوبُ، وَتُفَرَّجُ الْكُرُوبُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ( [الطلاق:2-3] .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ تَفْخَرُ بِعُظَمَائِهَا، وَتَحْتَفِي دَائِمًا بِسِيرَةِ نُـبَلَائِهَا، يَذْكُرُونَ مَآثِرَهُمْ، وَيُسَطِّرُونَ مَفَاخِرَهُمْ، وَيَجْعَلُونَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ مَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهِ، وَمِنْهَاجًا يَقْتَفُونَهُ وَيَسِيرُونَ عَلَى دَرْبِهِ.
وَإِنَّ سِيرَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْهَرُ السِّيَرِ؛ حَافِلَةٌ بِالدُّرُوسِ وَالْمَعَالِمِ وَالْعِبَرِ، وَمَلِيئَةٌ بِالْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ، وَالْأَخْبَارِ الْعِظَامِ، إِنَّهَا سِيرَةٌ تَجْمَعُ هَدْيَ رَسُولٍ، وَمَنْهَجَ نَبِيٍّ، وَأُسْلُوبَ مُعَلِّمٍ، وَحِكْمَةَ بَصِيرٍ، وَحُنْكَةَ قَائِدٍ، وَمَنَاقِبَ مَاجِدٍ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَنَارَاتِ الْبَيْضَاءِ، وَالأَحْدَاثِ الغَرَّاءِ: حَدَثُ هِجْرَةِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، الَّتِي فَرَّقَ اللهُ فِيهَا بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَجَعَلَهَا مَبْدَأً لِإِعْزَازِ دِينِهِ، وَنَصْرِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، فَمِنْ مَعِينِهَا تُؤْخَذُ الدُّرُوسُ، وَمِنْ أَحْدَاثِهَا تُسْتَلْهَمُ الْعِبَرُ.
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ:
لَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ- بِادِئَ اْلأَمْرِ- سِرًّا، ثُمَّ أُمِرَ بِأَنْ يَصْدَعَ بِالدَّعْوَةِ فَاسْتَجَابَ لِأَمْرِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَمْ يَرُقْ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَاوَمُوا دَعْوَتَهُ، وَكَادُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ كَيْدًا عَظِيمًا، وَصَبُّوا عَلَيْهِمْ جَامَ غَضَبِهِمْ، فَسَامُوهُمْ أَلْوَاناً مِنَ الْعَذَابِ، وَأَذَاقُوهُمْ أَصْنَافًا مِنَ الْأَذَى، حَتَّى هَاجَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَكُلَّمَا أَشْرَقَتْ شَمْسُ يَوْمٍ جَدِيدٍ اشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُمْ وَازْدَادَ صَلَفُهُمْ، حَتَّى تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالقَضَاءِ عَلَيْهِ؛ ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ [آل عمران:54]. عِنْدَهَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِيَلْحَقَ بِأَصْحَابِهِ هُنَالِكَ. فَتَعَالَوْا نَسْتَلْهِمْ مِنْ تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْمُبَارَكَةِ دُرُوسًا نَسْتَنِيرُ بِهَا فِي حَيَاتِنَا، وَعِبَـرًا نَنْتَفِعُ بِهَا فِي دَعْوَتِنَا.
فَأَوَّلُ هَذِهِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالبَاطِلِ قَائِمٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ( [آل عمران:140]، ثُمَّ تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَظْهَرُ الْغَلَبَةُ لِأَوْلِيَاءِ الرَّحْمَـنِ الْمُتَّقِينَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ([غافر:51].
وَمِنْهَا: أَنَّ الدِّينَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ؛ فَقَدْ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ].
وَمِـمَّا يُسْتَلْهَمُ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَخَلَّى عَنْ نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ، وَإِنِ اشْتَدَّتِ الْخُطُوبُ، وَعَظُمَتِ الْأَهْوَالُ، وَمَهْمَا كَادَ الأَعْدَاءُ وَمَكَرُوا، فَإِنَّ عَاقِبَةَ كَيْدِهِمْ إِلَى ضَلَالٍ، وَنِهَايَةَ مَكْرِهِمْ إِلَى خُسْرَانٍ وَزَوَالٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: )وَإِذْ يَمْكُرُبِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ([الأنفال:30].
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدِ اسْتَلْهَمْنَا مِنَ الْهِجْرَةِ الْمُطَهَّرَة: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُفَرِّطُ بِالْأَسْبَابِ مَهْمَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِالْمُسَبِّبِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، فَلَقَدِ اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجْرَتِهِ طَرِيقاً مُعَاكِساً لِلْمَدِينَةِ، فَاتَّجَهَ جَنُوباً اتِّقَاءً لِطَلَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَوَى إِلَى غَارِ ثَوْرٍ مَلْجَأً، وَاسْتَأْجَرَ هَادِياً مَاهِرًا بِالطَّرِيقِ، وَأَمَّنَهُ عَلَى رَاحِلَتَيْنِ لَهُ، وَلِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وحَمَلَ مَعَهُ الزَّادَ لِلطَّرِيقِ، وَتَأَمَّلُوا - أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْكِرَامُ - فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ حِينَ جَدَّتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذُوا مَعَهُمُ الْقَافَةَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ الْغَارِ، وَوَقَفُوا عَلَيْهِ. يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا، وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَـا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
إِنَّهَا الثِّقَةُ الْعَظِيمَةُ بِاللهِ فِي قَلْبِ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي اسْتَنْزَلَتْ نَصْرَ اللهِ وَتَأْيِيدَهُ: )إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ [التوبة:40].
وَفِي هَذَا تَجْلِيَةٌ لِفَضْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ إِذِ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ فِي أَصْعَبِ الْمَوَاقِفِ، وَأَخْطَرِ اْلأَحْوَالِ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَمِنْ عَظِيمِ هَذِهِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، الَّذِي خَرَجَ فِي طَلَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُمْ غَاصَتْ يَدَا فَرَسِهِ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ زَجَرَهَا فَنَهَضَتْ، ثُـمَّ غَاصَتَا مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا، فَادْعُوَا اللهَ لِي؛ وَلَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْظُرُوا إِلَى عِنَايَةِ اللهِ وَحِفْظِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ خَرَجَ سُرَاقَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا، وَطَالِبًا رُؤُوسَهُمَا، وَصَارَ آخِرَ النَّهَارِ حَارِسًا لَهُمَا، وَمُعَمِّيًا عَنْهُمَا!!.
وَفِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، تَجَلَّتْ مَعَانِي الْمَحَبَّةِ وَالْإِخَاءِ، وَبَرَزَتْ صُوَرُ التَّضْحِيَةِ وَالْفِدَاءِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِـمَّا فَعَلَهُ الْأَنْصَارُ؛ إِذْ كَانُوا يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْغَدَاةِ- لَمَّا بَلَغَهُمْ خُرُوجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَقَصْدُهُ الْمَدِينَةَ ـ يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ. فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ لَيْلًا، فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: «أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ» فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللهِ [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. وَثَارُوا إِلَى السِّلَاحِ؛ وَتَلَقَّوْهُ بِسُرُورٍ لَا يُوصَفُ، وَاسْتَقْبَلُوهُ بِسَيْلٍ عَارِمٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ لَا يُوقَفُ، وَسُمِعَتِ الرَّجَّةُ وَالتَّكْبِيرُ فِي الْمَدِينَةِ؛ فَرَحاً بِقُدُوُمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْتِهَاجاً بِمُقَامِهِ. وَبَقِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَـتَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالنَّاسُ يتَسَابَقُونَ إِلَى خِطَامِهَا، كُلٌّ يَقُولُ: هَلُمَّ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَالْـمَنَعَةِ، حَتَّى بَرَكَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. فَيَا لَلَّهِ مَا أَعْظَمَ حُبَّ الْأَنْصَارِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَا جَمِيعًا بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وَجَاهَدُوا وَصَبَـرُوا، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا.
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ:
إِنَّ أَوَّلَ خَطْوَةٍ خَطَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهِ بِالْمَدِينَةِ فِي أَخْوَالِهِ بَنِي النَّجَّارِ: إِقَامَةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ نَاقَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَاهَمَ فِي بِنَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ وَالْحِجَارَةَ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِـرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْـمُهَاجِرَهْ».
وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ مَعَهُ اللَّبِنَ وَيَرْتَجِزُونَ:
لَئِنْ قَعَـدْنَا وَالرَّسُـولُ يَعْمَـلُ لَذَاكَ مِـنَّا العَمَـلُ الـمُضَلَّلُ
إِنَّهُ بُرْهَانٌ عَمَلِيٌّ مَلْمُوسٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّضْحِيَةِ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي مُبَادَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَسْجدِهِ الشَّرِيفِ، إِشَارَةٌ إِلَى مَكَانَةِ الْمَسْجِدِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَلَقَدْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَنَارًا لِلْعِلْمِ، وَرَوْضَةً لِلْعِبَادَةِ، وَمَجْلِسًا لِلشُّورَى، وَمُنْطَلَقًا لِلْفُتُوحَاتِ. وَفِي مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمَا لَقِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْأَنْصَارِ مِنْ نُصْرَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَبذْلٍ وَمُوَاسَاةٍ؛ حَيْثُ قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِـمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لَا. فَقَالَ: «تَكْفُونَا الْمَؤُونَةَ وَنَشْرَكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَعْنَى الْإِخَاءِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي تَذُوبُ فِيهِ عَصَبِيَّاتُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعْلُو فِيهِ مَعَانِي الْإِيمَانِ، وَتَسْقُطُ جَمِيعُ الْفَوَارِقِ؛ فَلَا يَكُونُ الْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ. اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْوَبَاءَ وَالْبَلَاءَ، اللَّهُمَّ أَصْلِـحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِـحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْـمُسْلِمِينَ، وَارْحَمْ مَوْتَانَا وَمَوْتَى الْـمُسْلِمِينَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَـوَاصِيهِمَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة